سورة المجادلة - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المجادلة)


        


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ} {ناجَيْتُمُ} ساررتم. قال ابن عباس: نزلت بسبب أن المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى شقوا عليه، فأراد الله عز وجل أن يخفف عن نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما قال ذلك كف كثير من الناس. ثم وسع الله عليهم بالآية التي بعدها.
وقال الحسن: نزلت بسبب أن قوما من المسلمين كانوا يستخلون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويناجونه، فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى، فشق عليهم ذلك فأمرهم الله تعالى بالصدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلائه.
وقال زيد بن أسلم: نزلت بسبب أن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويقولون: إنه أذن يسمع كل ما قيل له، وكان لا يمنع أحدا مناجاته. فكان ذلك يشق على المسلمين، لان الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم ناجوه بأن جموعا اجتمعت لقتاله. قال: فأنزل الله تبارك وتعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ} الآية، فلم ينتهوا فأنزل الله هذه الآية، فانتهى أهل الباطل عن النجوى، لأنهم لم يقدموا بين يدي نجواهم صدقة، وشق ذلك على أهل الايمان وامتنعوا من النجوى، لضعف مقدرة كثير منهم عن الصدقة فخفف الله عنهم بما بعد الآية.
الثانية: قال ابن العربي: وفي هذا الخبر عن زيد ما يدل على أن الأحكام لا تترتب بحسب المصالح، فإن الله تعالى قال: {ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} ثم نسخه مع كونه خيرا وأطهر.
وهذا رد على المعتزلة عظيم في التزام المصالح، لكن راوي الحديث عن زيد ابنه عبد الرحمن وقد ضعفه العلماء. والامر في قوله تعالى: {ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} نص متواتر في الرد على المعتزلة. والله أعلم.
الثالثة: روى الترمذي عن علي بن علقمة الأنماري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما نزلت {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً} سألته قال لي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما ترى دينارا» قلت لا يطيقونه. قال: «فنصف دينار» قلت: لا يطيقونه. قال: «فكم» قلت: شعيرة. قال: «إنك لزهيد» قال فنزلت: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ} الآية. قال: فبي خفف الله عن هذه الامة. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه، ومعنى قوله: شعيرة يعني وزن شعيرة من ذهب. قال ابن العربي: وهذا يدل على مسألتين حسنتين أصوليتين: الأولى: نسخ العبادة قبل فعلها. والثانية: النظر في المقدرات بالقياس، خلافا لابي حنيفة. قلت: الظاهر أن النسخ إنما وقع بعد فعل الصدقة. وقد روي عن مجاهد: أن أول من تصدق في ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه وناجى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. روي أنه تصدق بخاتم. وذكر القشيري وغيره عن علي بن ابن طالب أنه قال: في كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، وهي: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً} كان لي دينار فبعته، فكنت إذا ناجيت الرسول تصدقت بدرهم حتى نفد، فنسخت بالآية الأخرى {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ}. وكذلك قال ابن عباس: نسخها الله بالآية التي بعدها.
وقال ابن عمر: لقد كانت لعلي رضي الله عنه ثلاثة لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حمر النعم: تزويجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى. {ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ} أي من إمساكها {وَأَطْهَرُ} لقلوبكم من المعاصي {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا} يعني الفقراء {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.


{أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ} استفهام معناه التقرير. قال ابن عباس: {أَأَشْفَقْتُمْ} أي أبخلتم بالصدقة، وقيل: خفتم، والإشفاق الخوف من المكروه. أي خفتم وبخلتم بالصدقة وشق عليكم {أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ}. قال مقاتل بن حيان: إنما كان ذلك عشر ليال ثم نسخ.
وقال الكلبي: ما كان ذلك إلا ليلة واحدة.
وقال ابن عباس: ما بقي إلا ساعة من النهار حتى نسخ. وكذا قال قتادة. والله أعلم.
الثالثة: قوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أي نسخ الله ذلك الحكم. وهذا خطاب لمن وجد ما يتصدق به {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ} فنسخت فرضيه الزكاة هذه الصدقة. وهذا يدل على جواز النسخ قبل الفعل، وما روي عن علي رضي الله عنه ضعيف، لان الله تعالى قال: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا} وهذا يدل على أن أحدا لم يتصدق بشيء. والله أعلم. {أَطِيعُوا اللَّهَ} في فرائضه {وَرَسُولَهُ} في سننه {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ}.


{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16)}
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} قال قتادة: هم المنافقون تولوا اليهود {ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ} يقول: ليس المنافقون من اليهود ولا من المسلمين بل هم مذبذبون بين ذلك، وكانوا يحملون أخبار المسلمين إليهم. قال السدي ومقاتل: نزلت في عبد الله بن أبي وعبد الله بن نبتل المنافقين، كان أحدهما يجالس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجرة من حجراته إذ قال: «يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان» فدخل عبد الله بن نبتل- وكان أزرق أسمر قصيرا خفيف اللحية- فقال عليه الصلاة والسلام: «علام تشتمني أنت وأصحابك» فحلف بالله ما فعل ذلك. فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فعلت» فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه، فنزلت هذه الآية.
وقال معناه ابن عباس. روى عكرمة عنه، قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالسا في ظل شجرة قد كاد الظل يتقلص عنه إذ قال: «يجيئكم الساعة رجل أزرق ينظر إليكم نظر شيطان» فنحن على ذلك إذ أقبل رجل أزرق، فدعا به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «علام تشتمني أنت وأصحابك» قال: دعني أجيئك بهم. فمر فجاء بهم فحلفوا جميعا أنه ما كان من ذلك شي، فأنزل الله عز وجل: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً} إلى قوله: {هُمُ الْخاسِرُونَ} واليهود مذكورون في القرآن و{غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}. {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ} أي لهؤلاء المنافقين {عَذاباً شَدِيداً} في جهنم وهو الدرك الأسفل. {إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} أي بئس الأعمال أعمالهم {اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً} يستجنون بها من القتل. وقرأ الحسن وأبو العالية {إيمانهم} بكسر الهمزة هنا وفي المنافقون. أي إقرارهم اتخذوه جنة، فآمنت ألسنتهم من خوف القتل، وكفرت قلوبهم {فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ} في الدنيا بالقتل وفى الآخرة بالنار. والصد المنع {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي عن الإسلام.
وقيل: في قتلهم بالكفر لما أظهروه من النفاق.
وقيل: أي بإلقاء الأراجيف وتثبيط المسلمين عن الجهاد وتخويفهم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5